• الرئيسية
  • /
  • المقالات
  • /
  • “الانتحار في الواقع المعاصر: قراءة في الأسباب والمخاطر وسبل المعالجة

“الانتحار في الواقع المعاصر: قراءة في الأسباب والمخاطر وسبل المعالجة

بقلم : الدكتور الشيخ حسين التميمي

تُعدّ ظاهرة الانتحار من أخطر الظواهر النفسية والاجتماعية التي برزت في المجتمعات المعاصرة حتى أصبحت حديث الإعلام والمنصّات الرقمية والبيوت، لما تخلّفه من آثار موجعة على الفرد والمجتمع. وتشير التقارير الحديثة الصادرة عن منظمة الصحة العالمية إلى أنّ ما يقارب (700 ألف حالة انتحار) تُسجّل سنوياً على مستوى العالم، وأنّ الانتحار يُعدّ من بين أعلى أربعة أسباب لوفاة الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين (15-29) عاماً (منظمة الصحة العالمية، تقرير الصحة النفسية 2023)، هذه الأرقام تكشف حجم التحدي، وتدفع باتجاه دراسة أسبابه بعمق، وعدم التعامل معه بوصفه حدثاً عابراً أو نتيجة لحالة عاطفية طارئة.
وتتوزّع أسباب الانتحار غالباً بين دوافع نفسية تنتج عن الاكتئاب والقلق الحاد والشعور بالعجز وفقدان المعنى؛ وأخرى اجتماعية نتيجة التفكك الأسري أو التنمر أو الضغط الاقتصادي؛ وثالثة تنبع من تراكم ثقافي يروّج لفكرة الهروب من الألم باعتبارها “خلاصاً”، وتُظهر دراسات علم النفس الإكلينيكي أنّ ما يقرب من (90%) من حالات الانتحار ترتبط باضطراب نفسي غير مُشخّص أو غير مُعالج، مثل الاكتئاب أو اضطرابات الشخصية أو الإدمان (جمعية الطب النفسي الأمريكية، الدليل الإكلينيكي لعام 2022)، وهنا تكمن خطورة الصمت عن الأعراض، إذ أن المصاب لا يعلن غالباً عن ألمه، بل قد يتظاهر بالهدوء أو القوة، وهو ما يُعرف بـ”الاكتئاب المقنّع”.
وأمّا من الناحية الدينية، فقد جاءت النصوص الإسلامية واضحة في تحريم قتل النفس وتجريم الانتحار، وذلك لكون النفس أمانة إلهية لا يجوز التفريط بها. قال تعالى: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا﴾ (سورة النساء: 29). وفي الحديث الشريف عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: “من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجّأ بها في نار جهنّم خالداً مخلداً فيها أبداً” (صحيح مسلم، كتاب الإيمان). لكنّ الإسلام، في الوقت ذاته، لا يُجرّم المريض ولا يُدين الضحية، بل يدعو إلى رعايته واحتوائه وصون كرامته، لأنّ الانتحار غالباً ليس قراراً واعياً بقدر ما هو انهيار تحت ضغط شديد.
وإنّ التحوّلات الثقافية في مجتمعاتنا الحديثة جعلت الإنسان يعيش حالة قطيعة معرفية وروحية مع ذاته. فالثقافة الرقمية والاستهلاك السريع والمتابعة المستمرة لنماذج “السعادة المصنوعة” على المنصات، جعلت الفرد يقارن نفسه بغيره باستمرار، فيشعر بالنقص والدونية. وتشير دراسات علم الاجتماع الرقمي إلى أن الاستخدام المكثف لمنصات التواصل يزيد بنسبة (30%) من معدلات الاكتئاب لدى المراهقين (مجلة علم النفس الاجتماعي المعاصر، العدد 12، 2024). ومثل هذه الحالة تصنع فراغاً وجودياً يتفاقم تدريجياً، بحيث يصبح الإنسان غير قادر على رؤية معنى لحياته.
ومما يزيد المشكلة تعقيداً، غياب الحوار الأسري الدافئ، إذ يشعر كثير من الشباب بأن بيوتهم ليست ملاذاً آمناً للبوح، بل ساحات توجيه ولوم ومطالبة، فيكتمون ألمهم، ويتحوّل الصمت إلى ألم مزمن. كما أنّ بعض البيئات المدرسية والجامعية والوظيفية لا تراعي الصحة النفسية، بل تستنزف الإنسان دون أن تفتح له منفذاً للتعبير.
وإن معالجة هذه الظاهرة لا يمكن أن تكون بعلاج سطحي أو بخطاب وعظي فقط، بل تتطلب حلولاً متكاملة تشمل:
أولاً: تعزيز الصحة النفسية في المدارس والجامعات عبر إدخال برنامج ثابت للتوعية النفسية وفتح عيادات استشارية مجانية وعلنية، ليعرف الشباب أنّ طلب المساعدة ليس ضعفاً بل شجاعة.
ثانياً: التثقيف الأسري من خلال دورات وورش حول كيفية احتضان الأبناء، وإعادة بناء لغة الحوار القائمة على الإصغاء لا الاتهام.
ثالثاً: تجريم التنمر الإلكتروني والمجتمعي لأنه أحد أبرز أسباب الانهيار النفسي، وقد أثبتت دراسات عالمية أن 20% من حالات الانتحار بين المراهقين كان المتنمرون دافعها المباشر.
رابعاً: إحياء المعنى والارتباط الروحي عبر خطاب ديني معرفي لا تخويفي، يربط الشاب بالله بوصفه رحمة وأمناً لا تهديداً. فالإيمان الحقيقي يولد معنى، ومن يمتلك معنى يستطيع الاحتمل والمواجهة.
خامساً: إتاحة خدمات العلاج النفسي بأسعار مناسبة لأن الكثيرين يملكون الألم ولا يملكون القدرة المالية للعلاج، وفي هذه الحالة يصبح المجتمع مسؤولاً وليس الفرد وحده.
سادساً: صناعة محتوى إعلامي بديل يواجه المحتوى الذي يروّج للعزلة والسوداوية، ويحفّز على الأمل والعمل والتواصل.
وإنّ أخطر ما يمكن أن نفعله تجاه هذه الظاهرة هو تجاهلها أو اختزالها في حكم ديني أو لوم أخلاقي، فالمنتحر ليس مجرماً، بل إنسان تعب ولم يجد يداً تُنقذه. والواجب أن نكون تلك اليد. فالمجتمع الراقي هو الذي يرى الألم في عيون أفراده قبل أن يتحوّل إلى مأساة، إنّ بناء الوعي النفسي ليس رفاهية، بل ضرورة وجودية لحماية أرواح أبنائنا وبناتنا.
ويبقى الأمل قائماً، فكل إنسان قادر على النجاة حين يجد من يسمعه ويحتضنه ويفهم ظلامه دون إدانة. وما دام في القلب نور مهما كان ضعيفاً، فالحياة تستحق أن تُعاش، والإنسان يستحق أن يُنقذ.

admin@gmail.com

Writer & Blogger

المقالة السابقة
المقالة التالية

You May Also Like

  • All Posts
  • التحقيقات
  • الدراسات والبحوث
  • الشؤون الاجتماعية
  • الشؤون السياسية
  • الكتب
  • المجلة
  • المقالات
  • النمو الاقتصادي في دول مجلس التعاون الخليجي
  • الوثائقيات
  • تاريخ الديوان الملكي
  • رياضة
  • غير معرف
  • فن

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

About Company

Lorem ipsum dolor sit amet, consectetur adipiscing elit. Ut elit tellus, luctus nec ullamcorper mattis, pulvinar dapibus leo.

Latest News

Newsletter

أبجد هوز حطي كلمن سعفص قرشت ثخذ ضظغ

You have been successfully Subscribed! Ops! Something went wrong, please try again.

Unlock Premium Content!

Sign up for our
premium membership today.

Categories

Tags

    بعض الاقسام

    روابط مهمة

    الرئيسية

    المقالات

    فريق العمل

    تواصل معنا

    العنوان :

    حي سيد الشهداء ( المدينة المنورة )

    كل الحقوق محفوظة لشركة  ( Digit fans ) 2025